كيف نستطيع فعلاً دخول عصر اقتصاد الإنتاج؟

عاجل

الفئة

shadow
*أحمد بهجة خبير مالي واقتصادي*

 كان فرانكلين روزفلت رئيساً للولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي، أيّ بعد الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 1929، وكان متخوّفاً جداً من الانعكاسات الاجتماعية الخطيرة التي يسبّبها استمرار الاقتصاد الأميركي موغِلاً في رأسماليته المتوحّشة، وعدم الالتفات مطلقاً إلى الأوضاع الاجتماعية للذين يسحقهم ذلك النظام الاقتصادي الظالم.
وكتب روزفلت حينذاك قائلاً "لا يمكن لبلدنا أن يستمرّ على طريقة اقتصادنا الحالية... الناس يخرجون في الشوارع ويرون السلع التي يريدون شراءها أمامهم ولا يستطيعون نيْلها… التفاوت بين الطبقات يتّسع ويكبر… لا بدّ من إصلاحات جذرية لاقتصادنا تعيد له التوازن، وإلا افتقد الاقتصاد أمنه وأمانه".
وقد شهد الاقتصاد الأميركي في ذلك الوقت جملة من الإصلاحات التي أوْجبت على الدولة المركزية أن يكون لها دور أكبر وتدخل أوسع في الشأن الاقتصادي العام، وخاصة حين تمّ إدخال بعض المضامين الاجتماعية إلى النظام الرأسمالي الليبرالي، مثل نظام الرعاية الصحية الشاملة، ونظام الشيخوخة حتى للعاملين في القطاع الخاص، ونظام المعونات الشهرية للعاطلين عن العمل...
هذه الضوابط بدأ إدخالها تباعاً منذ نحو مئة عام إلى العديد من الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية، لكي يبقى هناك متنفس لصغار العاملين والموظفين والمنتجين، وهؤلاء لا يستطيعون مواجهة حيتان المال، الذين تكفلت بمواجهتهم القوانين والحمايات الاجتماعية، وفي الوقت نفسه حافظ واضعو تلك القوانين والحمايات على أساسيات الاقتصاد الحرّ لكي لا تتأثر دورة الإنتاج التي لا غنى عنها في كلّ دولة تريد أن تحقق لشعبها التنمية والنموّ.
طبعاً ليس كلّ أصحاب الأموال والثروات من الحيتان، لكن هذا لا يعني عدم وجود الحيتان، خصوصاً من ذلك النوع النّهِم الذي لا يشبع، وهذا النوع لدينا منه الكثير في لبنان، وقد رأينا ولا نزال نرى في الاقتصاد اللبناني عموماً وفي القطاع المصرفي خصوصاً ماذا يمكن أن يفعل هؤلاء الحيتان. وإذا أردنا فعلاً إصلاح الاقتصاد لا بدّ أن نضع لهم الضوابط اللازمة حتى لو كانت قاسية، لأنّ الوضع الراهن لا يمكن أن يستمرّ إلى ما لا نهاية.
على أنّ هذا الإصلاح يجب أن يشمل أيضاً ما يسمّيه الوزير السابق فادي عبّود سمك "البيرانا". وهو سمك صغير الحجم لكنه يستطيع تحويل الإنسان إلى هيكل عظمي في بضع دقائق، وهذا النوع موجود بكثرة في إدارات الدولة ووزاراتها ومؤسّساتها، وهو كثير التطلّب ولا يكلّ مطلقاً عن توسيع الثقوب في جيوب اللبنانيين، وفي خزنات المالية العامة المنتشرة في الدوائر الرسمية العقارية، الجمركية، الضريبية والمعاملات الإدارية... لكن هؤلاء الموظفين "البيرانا" لم يكن بمقدورهم الاستمرار في ارتكاباتهم، والتفلّت دوماً من المحاسبة والعقاب، لو لم يكن خلفهم حيتان تحميهم وتتقاسم معهم "الغلة".
وإذا كانت معاناتنا في لبنان كبيرة جداً مع الحيتان ومع "البيرانا" في الوقت نفسه، فإننا نعاني أيضاً من معضلة إضافية تعيق الحركة الاقتصادية وتؤخر انطلاق عجلة الإنتاج، وهذه المعضلة تتمثل أولاً في "الكربجة" الحاصلة في القطاع العام، على اختلاف مستوياته، وغياب الموظفين عن مكاتبهم في أغلب الأيام، وثانياً في حجم العراقيل الإدارية التي يواجهها أيّ مستثمر إذا أراد أن يؤسّس مصنعاً أو شركة إنتاجية في أيّ قطاع، حيث التضارب في الصلاحيات وأحياناً تطلب هذه الإدارة أمراً ما فتأتي إدارة أخرى لتطلب عكسه...! بينما المطلوب هو العكس تماماً، أيّ أننا بحاجة إلى تبسيط المعاملات وتسهيلها أمام هؤلاء المستثمرين الراغبين بالبقاء في بلدهم والاستثمار فيه رغم الفرص والتسهيلات الكثيرة التي يجدونها أمامهم في دول عديدة.

وهنا طبعاً علينا التغلّب على بعض الحيتان ممن لا يزالون قادرين على عرقلة أيّ توجّه إصلاحي جدّي، يحقق في آنٍ معاً مصلحة ذوي المداخيل المتوسطة والمحدودة، وكذلك مصلحة الاقتصاد الوطني وقطاعاته الإنتاجية الحقيقية، من خلال توفير كلّ ما يجب من دعم وتقديم كلّ ما يمكن من تسهيلات لأصحاب العمل في هذه القطاعات، وهؤلاء يختلفون كثيراً عن الحيتان الذين لا بدّ أن يأتي يوم يخضعون فيه للمساءلة والمحاسبة والعقاب، الأمر الذي يمكّن المخلصين من إرساء المفهوم المجتمعي للاقتصاد، بالمعنى العادل والمنصف، وبما يوفر تكافؤ الفرص، ويحمي حقوق كلّ المنتجين في القطاعات المختلفة.

ولعلّنا في أخذ العبَر مما سبق، يمكننا التوصل إلى الدواء الناجع الذي يحتاج إليه الاقتصاد اللبناني المريض أصلاً، والذي ازداد مرضه وتفاقم مع الوقت، بسبب الإصرار على الاستمرار في السياسات نفسها التي تسبّبت بالمرض، وهي السياسة المعاكسة تماماً لمفهوم اقتصاد الإنتاج، لأنّ اعتمادها الفعلي كان ولا يزال على الريوع المصرفية وعلى المضاربات العقارية، التي تبقى أرباحها بعيدة إلى حدّ كبير عن دورة الإنتاج في قطاعات الاقتصاد الحقيقي، كما تُسمّى في بلاد الناس...

الناشر

1bolbol 2bolbol
1bolbol 2bolbol

shadow

أخبار ذات صلة